The Evening of Friday, February 11, 2011 (Arabic Text)
by Hamdy El-Gazzar / February 10, 2014 / No comments
عنوان العمود : مِن مصر
الكاتب: حمدي الجزَّار
أديب مصري، درَسَ الفلسفة، من أعماله الروائية: “سحْر أسْود”، و”لذَّاتٌ سِرّية”، و”كتاب السُطورُ الأَرْبَعة”، و”مَلحمة ثَورتنا”، تُرْجِمتْ أعماله إلى الإنجليزية والتركية والفرنسية والتشيكية، حاز جائزة مؤسسة ساويرس للأدب المصري 2006، واختيِّرَ في مشروع بيروت 39 ، أفضل الكُتَّاب العرب دون الأربعين.
موضوع الكتابة :
في هذه المساحة يُعنىَ الكاتب بشئون الثقافة والأدب المصري والعربي، وقضايا حرية الإبداع والفكر والتعبير في الوطن العربي، ويكتب بلا حدود، وبالأسلوب والنوع الأدبي الذي يراه، ومتحررًا من كل قيد.
مساء الجمعة 11فبراير
مساء الجمعة11 فبراير 2011.
كان قصر الرئاسة معزولًا بالأسلاك الشائكة، محروسًا بعشرات الدبابات وآليات الحرس الجمهوري، ومحاصرًا بعشرات الآلاف من الثوار الذين توافدوا عليه من كل صوب منذ ليلة أمس.
بغروب شمس اليوم، من القصر الجمهوري ظهر على شاشة تليفزيون الحكومة نائب الرئيس، كبير العسس السابق.
في ثانية الصمت الأولى بدا العجوز ذو الوجه القاسي متجهمًا يائسًا كآبقٍ في طريقه للجحيم، صمتَ لحظات وهو يحدق في ورقة بيده، بلع ريقه الناشف، وكمُدانٍ يتلو بنفسه على العالم قرار إعدامه الشخصي، أعلن تخلي الرئيس عن منصبه، وتفويض المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شئون البلاد.
مساء الجمعة 11 فبراير 2011.
في ميدان طلعت حرب، مع انتهاء البيان القصير المكوَّن من جملة واحدة، ومع تلاشي الوجه العتيق من الشاشة وللأبد، شق شاب طريقه بين زحام الآلاف في الميدان الأنيق. تسلق قاعدة تمثال طلعت حرب حتى وصل عند رأسه، قبَّل جبهته وطربوشه، وصار يلوح بعلمه للسماء وللنجوم صارخًا بالحرية، وانفصل بكليته عن الجموع الصاخبة المغردة بالفرح في الميدان والشوارع، صرخ الشاب ونادى السماء، كأنه فرحه وحده وانتصاره وحده.
حول طلعت حرب والشاب شعب يغني ويرقص، يقهقه ويبكي في آن واحد، يموج ويهدر، جسد واحد عملاق كشمس وكجبال، يزغرد نشوانَ وسكرانَ، يزلزل الأرض ويدب فوقها بملايين الأقدام، ويطلق الضوء والألعاب النارية من كل صوب في اتجاه واحد.. اتجاه السماء العالية.
مساء الجمعة 11 فبراير 2011.
لأول مرةٍ في حياتي يخطر على بالي أن أدفع نقودًا وأشتري علمًا، علمًا كبيرًا، ولأول مرة يخفق قلبي بأن أضمَّه برفق بين يدي، وبأنامل أصابعي ألمسه وأتحسس قماشه بغبطة ورهبة، لأول مرةٍ أرغب في أن أقبض عليه بكف يميني وأرفعه فوق رأسي، وأطلقه بامتداد ذراعي وانبساط يدي، وأحرّكه في هواء بلادي يمينًا ويسارًا، كآية وبشارة، مصغيًا بكل حواسي لخفقته ورفرفته، ومحدقًا في ألوانه ونسره.
أرفعه عاليًا بقوة يدي وروحي، وألوِّح به للآخرين بمرح طفل، مبتسمًا من قلبي المرتعش ابتسامة رضا وسلام نهائية.
ربما أفعل ما أفعل كي أرى وأنظر الخلق، ولينظرني الجميع على الأبواب والنواصي، في الشبابيك والبلكونات، في الشوارع والميادين، ولأجل أن أتنفس هواءهم وأحيا، ألامس سحابة الفرح التي سكنتْ فيهم، تلازم وجودهم وحضورهم، تحيط أجسادهم ووجوههم، وفوق رءوسهم تمضي معهم أينما ساروا. أستوقفهم، ألمس برقة حمام أكتاف الرجال والنساء، وأنظر في عيونهم التي أضاءت بالنور بعد ظلام طويل طويل، وأقول لهم دون أن يتحرك لساني: “وأنا أيضًا فخور الليلة، والليلة فقط، بأنني ولدتُ هنا مثلكم، وأني واحد منكم”.
وأصيرُ ذرة رمل، قطرة ماء في بحر شعبي على رصيف طلعت حرب، ولا مكان بنهر الشارع لقدمين أخريين. أنساب وأموج مع الكائن العظيم بخفة دون إرادة، منوَّمًا ومنتشيًا بغبطة لم أذقها من قبل أبدًا. عَلَمي شراعي أرفعه، وجهي له، وعيناي تتطلعان للقمر في السماء، ولله الأكبر.
“الله أكبر .. الله أكبر” من كل لسان وكل فم، تصَاعَدَتْ للسماء.
من خلفي أمسكت يد مراهق مترددة بقماش علمي، نظرتُ إليه متسائلًا، حين التقت عيوننا قال برقة، بصوت خافت: “نفسي أشيل علم” .
تركتُ العلم لأصابعه وفرحة عينيه وابتسامة صباه.
في لحظة خاطفة حمله صديقه الفتيّ على كتفيه واندفعا في نهر الشارع مخترقيْن الزحام نحو ميدان التحرير.
من فوق كتفي صاحبه،أخذ يلوِّح بالعلم كأنه روح أمته، وكنز ذهبه الشخصي بيده، وبصوت كالرعد راح يصرخ: “مصر حرة .. مصر حرة.”
هبطتُ كريح من الرصيف إلى نهر الشارع جاريًا خلفه، مرددًا بعده: “مصر حرة “.