Zahra (Arabic Text)
by Hamdy El-Gazzar / April 7, 2014 / No comments
عنوان العمود : مِن مصر
الكاتب: حمدي الجزَّار
أديب مصري، درَسَ الفلسفة، من أعماله الروائية: “سحْر أسْود”، و”لذَّاتٌ سِرّية”، و”كتاب السُطورُ الأَرْبَعة”، و”مَلحمة ثَورتنا”، تُرْجِمتْ أعماله إلى الإنجليزية والتركية والفرنسية والتشيكية، حاز جائزة مؤسسة ساويرس للأدب المصري 2006، واختيِّرَ في مشروع بيروت 39 ، أفضل الكُتَّاب العرب دون الأربعين.
موضوع الكتابة :
في هذه المساحة يُعنىَ الكاتب بشئون الثقافة والأدب المصري والعربي، وقضايا حرية الإبداع والفكر والتعبير في الوطن العربي، ويكتب بلا حدود، وبالأسلوب والنوع الأدبي الذي يراه، ومتحررًا من كل قيد.
زهرة، ليس لها من اسمٍ آخر عندى.
أعطيها اسمًا من دماغى لأننى لم أعرف لها اسمًا حقيقيًا، واقعيًا، أبدًا.
هناك، على بُعد متر واحد منى، كانت موجودة، حاضرة، كحياة نضرة خضراء، كحاجة مؤلمة، كالجوع.
كانت بنتًا غريبة تمامًا عن حينا، لم تعش معنا طفولتنا فى حواري وعطوف طولون، لم تلعب معنا، ولم تذهب لمدرستنا، لم نتتبع نموها، ونراها وهى تطول، وتفور، وتتدور، مودعةً الطفولة لتصير صبية لها صدر من الليمون، لم نلاحظها وهى تصبح فتاة ملفوفة، بصدر من البرتقال أمام أعيننا، وهى لم ترنا نعبر من جلد الطفولة الطرى إلى جلد مشعر خشن، لم تر شواربنا الخضراء تنبت وتثقل، وعضلاتنا تنمو، ولم تسمع أصواتنا تخشوشن وتغلظ.
أعرف معظم بنات طولون، فى مثل سنى، والأكبر والأصغر، وإخوتهن، وآبائهن، وأمهاتهن أما هذه الغريبة، فلم تقع عليها عيناى لمرة واحدة فى حارة أو شارع
أو زقاق فى طولون، لم أرها من قبل أبدًا، هى بنت غريبة، عابرة، عبرتنى بسرعة كنسمات صيف لطيفة.
كانت واقفة فى طابور العيش، المكتظ والمزدحم، قدام فرن طولون البلدى، الفرن الوحيد بحينا. جسدها الصغير يكاد أن يُبَطَط فى الطابور غير المنتظم، الذى تدفع فيه كل واحدة، بكلتا يديها، منْ أمامها، بينما الواقفة فى الأمام تزغد بكوعها منْ خلفها. وهى كانت مزنوقة بين امرأتيْن بدينتين في ملاءتين سوداوين، كانت محشورة بين أم شفيق الدلاّلة، وبنتها شفيعة الدميمة. زهرة تكاد تختفى، وينمحى وجودها بين هذين الجسدين السمينين، مرة تدفعها شفيعة من خلفها، ومرة يزغدها كوع أم شفيق فى جنبها.
كانت يدها السمراء الرقيقة تتشبث بجلباب أم شفيق أمامها مرة؛ حتى لا تنهار، وتسقط تحت الأقدام، ومرة أخرى تركن ظهرها على شفيعة خلفها حتى لا تنكفئ على وجهها للأمام.
زهرة كانت تجاهد حتى لا تتهاوى، وتسحلها الأقدام، وحتى تظل فى دورها، فى طابور العيش. وكانت سمراء، مسمسمة التقاطيع، فى نحو الخامسة عشرة، باسمة الثغر رغم ألم السحل والفعص، ولها شفتان حمراوان رقيقتان، وغمازتان ساحرتان. كان وجهها مستديرًا كشمس صغيرة، عيناها سوداوان فى عذوبة، وشعرها فاحم السواد، يحيط بوجهها ويسترسل ناعمًا، وطويلاً.
خطفنى حسنها، وكنت أرغب فى رؤية بقية جسدها، أريد أن تنزلق عيناى على جيدها وصدرها، وخصرها، وفخذيها، وساقيها. لم أستطع، لا لشىء سوى لأنها كانت محجوبة الجسد فى الزحام بأجساد نساء سمينات، وضخمات أمامها وخلفها، وحولها. بعد زمن ومشاجرات ومناكفات، خف الزحام، واستوى الطابور واقتربت مقدمته من الشباك الحديدى الذى خلفه الخبز، وحسن الفران.
بانت لى كاملة من القدم إلى الشعر، فأتت الدهشة المذهلة، فاغرة فمها، على وجهى. كانت ترتدي “شوالاً”! جوالاً من الأجولة السميكة الخشنة، التى يُعبأ بها الدقيق والسكر والذرة. كان جوالها مغسولاً ونظيفًا وخشنًا، بالكاد يغطي ركبتيها، وبلا أذرع؛ يظهر منه ذراعاها الطويلان الرشيقان جميليْن، كجناحى طائر فريد.
التقت عيناى بعينيها لبرهة، فرأيت فيهما:
” كم يكون جميلاً لو ترانى بفستان ملون من حرير”.
البنت جميلة، تعرف أنها أجمل من فى طابور الخبز، أجمل بنت ظهرت فى طولون، فى القاهرة كلها، وتعرف بطريقة أكثر خشونة وغلظة أنها تلبس جوال دقيق، وأن لا بنت بهذا الحىّ ارتدت أبدًا ما ترتديه، حتى بنات الشحاذين فى العشش وقلعة الكبش وشيّخون، وكانت تحس وتشعر أن أم شفيق أمامها وشفيعة خلفها تحتقران وجودها بينهما.
البنت جميلة للغاية ومنتهكة، ومقلوب وجودها الحقيقي، مثل زهرة وضعوها فى عين كنيف بلدى.
كنت فى السادسة عشرة، وكنت ساخطًا وغاضبًا وممرورًا، وكان قلبى قد بدأ يتعلق بالأنثى، وفكرى بهن مشغول، وكنت أريد أن أحب، وأن يصير لى حبيبة!
كنت أريد أن أكلمها، أن أقول لها ولو عبارة واحدة، كلمة واحدة، مثل “إزيك”، “أنتِ جميلة”، “لا تحزنى” أو” أنتِ فى سنة كام؟”، “أنتِ منين؟”، “لا تحزنى” لكننى خجلتُ، وترددت وظللت متسمرًا فى مكانى، أحدق فيها كأبله.
أخيرًا وصلتْ للشباك الحديدى فلم ترفع يدها بنقود، فقط رفعت وجهها لوجه حسن الفران، وابتسمت له، فأعطاها.
عبرتْ إلى جوارى، حاملة بين يديها العاريتين وصدرها عيش”السَحْلَة”، الذى عطف به حسن عليها، مرت عن يسارى بخطوات بطيئة، محدقة فىّ وباسمة، كأنها تستفهم سر اهتمامى بها، وحملقتى فيها. ابتعدت عنى خطوات كثيرة، ثم توقفت كأنها نسيت شيئًا، ولوت رقبتها للخلف، ونظرت إلىّ وابتسمت لى، كأنها أميرة تحمل بين يديها أرغفة من ذهب، فابتسمت لها، واضطربت، خجلت، ووضعت وجهى في الأرض.
من المؤكد أنه لم يكن بعينيّ أثر لعطف أو شفقة، أو إشفاق، كان بعيني شيء أجمل وأروع من هذا كله، كان بعيني حب مراهق، وبصدري قلب ينتفض، سريع الدقات.
لم أرها بعد ذلك مطلقًا، ولا لمرة واحدة. حاولت أن أتخيل ما وراءها، حكايتها وقصتها، لكني لم أعرف أبدًا.
عدت للبيت حاملاً أرغفة الخبز على صدرى، وقلبى تحت صدرى ممتلئ بشىء جديد حلو، وجميل، ولم أجد أمي بالبيت.